فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



التفسير الصحيح للآية:
وهاك تفسير الآية الذي يساير روحها ونصها، وتشهد له الروايات الصحيحة، وتتجلى فيه حكمة الله العالية؛ ذلك: أن العرب كان من عادتها التبني، وكانت تلحق الابن المتبنى بالعصبي، وتجري عليه حقوقه في الميراث، وحرمة زوجته على من تبناه، وكانت تلك العادة متأصلة في نفوسهم، كما كان كبيرا أن تتزوج بنات الأشراف من موالٍ، وإن أعتقوا، وصاروا أحرارا طلقاء، فلما جاء الإسلام، كان من مقاصده: أن يزيل الفوارق بين الناس التي تقوم على العصبية، وحمية الجاهلية، فالناس كلهم لآدم وآدم من تراب، وأن يقضي على حرمة زوجة الابن المتبنى، وقد شاء الله أن يكون أول عتيق يتزوج بعربية في الصميم من قريش هو زيد، وأن يكون أول سيد يبطل هذه العادة-حرمة زوجة الابن المتبنى- هو رسول الله، وما على بنات الأشراف أن يتزوجوا بأزواج أدعيائهم، وقد قضوا منهن وطرا، وإمام المسلمين، ومن يصدع بأمر الله، قد فتح هذا الباب، وتزوج حليلة متبناه بعد فراقها، وقد كان كل ما أرد الله، فرسول الله يخطب زينب لزيد، فتأبى، ويأبى بعض أهلها، ويكرر رسول الله الطلب، وينزل الوحي بذلك: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} فلم يبقَ إلا الإذعان من زينب وأهلها، ولكن زيدا وجد منها تعاظما، فيرغب في فراقها، ويستشير الرسول، فينصحه بإمساكها، وكان جبريل قد أخبر رسول الله بأن زينب ستكون زوجة له، وسيبطل الله بزواجه منها هذه العادة، ولكن النبي وجد غضاضة على نفسه أن يأمر زيدا بطلاقها، ويتزوجها من بعد، فتشيع المقالة بين الناس، أن محمدا تزوج حليلة ابنه، وبذلك: يصير عرضة للقيل والقال من أعدائه، وهو في دعوته إلى دين الله أحوج إلى تأييد المؤيدين، فهذا المقدار من خشية الناس حتى أخفى ما أخبره الله به-وهو نكاحها- هو ما عاتبه الله عليه، وقد صرح الله في كلامه بالسبب الباعث على هذا الزواج فقال: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} هذا هو التفسير الذي يتفق مع الحق والواقع.
وقد نسج المستشرقون، والمبشرون، أعداء الدين، من تلك الروايات المختلقة الواهية ثوبا من الكذب والخيال، وصوروا السيدة زينب وقد رآها النبي الطاهر، كما يصور الشباب الطائش إحدى غادات المسرح، وطعنوا في غير مطعن، فالروايات ليس لها أساس من الصحة فبناؤهم على غير أساس.
يقول الدكتور هيكل في حياة محمد: ويطلق المبشرون والمستشرقون لخيالهم العنان، حين يتحدثون عن تاريخ محمد في هذا الموضوع، حتى ليصور بعضهم زينب ساعة رآها النبي، وهي نصف عارية أو تكاد، وقد انسدل ليل شعرها على ناعم جسمها، الناطق بما يكنيه من كل معاني الهوى، وليذكر آخرون: أنه حين فتح باب بيت زيد لعب الهواء بأستار غرفة زينب، وكانت ممدودة على فراشها في ثياب نومها، فعصف منظرها بقلب هذا الرجل الشديد الولع بالمرأة ومفاتنها، فكتم ما في نفسه، وإن لم يُطِقِ الصبر على ذلك طويلا! وأمثال هذه الصور التي أبدعها الخيال كثير، تراه في موير وفي درمنجم وفي واشنطن ارفنج، وفي لامنس. وغيرهم من المستشرقين والمبشرين.
وثمة حجة دامغة تذهب بالقصة من أساسها، فالسيدة زينب هي: بنت أميمة بنت عبد المطلب، بنت عمة رسول الله، وقد ربيت على عينه، وشهدها وهي تحبو، ثم وهي شابة، وله بحكم صلة القرابة معرفة بها، وبمفاتنها، ولاسيما: والنساء كن يبدين من محاسنهن ما حرم الإسلام منه بعد، وهو الذي خطبها على زيد مولاه، وكرر الطلب، حتى استجيب له، روى ابن مردويه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزينب: إني أريد أن أزوجك زيد بن حارثة، فإني قد رضيته لك، قالت: لكني لا أرضاه لنفسي، وأنا أيم قومي، وبنت عمتك، فنزلت الآية: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} قالت: قد أطعتك، فاصنع ما شئت، فغير معقول، والحال كما ذكرت، ألا يكون شاهدها، فلو كان يهواها، أو وقعت من قلبه، فأي شيء كان يمنعه من زواجها، وإشارة منه كافية؛ لأن يقدموها له وما ملكت؟ فمثله وهو في الذروة من قريش نسبا وخلقا ودينا، ما كان يُقدَع أنفه. ومن بعد ذلك، فحياة رسول الله من صباه إلى كهولته إلى أن توفي ترد هذه الفرية؛ فحياته لم تكن حياة حب واستهتار، ولا عرف عنه أنه كان زير نساء، ولا صريع الغواني؛ وإنما كانت حياة الشرف والكرامة، ما عرفت الدنيا أطهر ذيلا منه، ولا أعف منه، ولا لمست يده قط يد امرأة لا تحل له بشهوة، وكيف يكون على هذا الحال الذي افتروه من خاطبه من يعلم السر وأخفى، بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} ولو كان رسول الله صاحب هوى، أو غرام لأشبع رغبته وهو في ميعة الصبا وشرخ الشباب، أيام أن كان الغيد الكواعب من بنات الأشراف تشرئب أعناقهن إلى أن يكن حليلات له، ولكنه قضى شبابه مع سيدة تزيد على الأربعين، ورضيها زوجا له، حتى توفاها الله، ومهما قيل في جمالها: فهناك غيرها من الأبكار الشابات من يفقنها في الجمال، وللأبكار ما لهن من جاذبية وروعة، ومن قضى بغير ذلك: فقد خالف سنة الله في الفطرة، واتبع شواذ العادات.
ولم يكن زواج رسول الله بزوجاته إلا لحكم ومقاصد سامية: فزواجه بعائشة وحفصة توكيد للعلاقة بينه وبين وزيريه، وزواجه بالسيدتين، سودة وزينب بنت عبد الله تكريم لهما، وللعقيدة القوية في شخص زوجيهما، وزواجه بالسيدة أم سلمة جبر لكسرها، وتعويض لها عن فقد عائلها، وعرفًا لتضحياتها وتضحيات السيد أبي سلمة زوجها، ومهما قيل في أم سلمة، وأنها كانت ذات جمال في شبابها؛ فقد كان في كبر سنها وما مرت به من أحداث جسام، من الهجرة إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وما أنجبت من أولاد، وما رزئت به في فقد الرجل الذي ما كانت تظن أن هناك من هو خير منه. لقد كان في كل ذلك ما يذوي بهذا الجمال، إن لم يذهب به، ثم أليس في غيرها من بنات المهاجرين والأنصار الأبكار من تفوقها جمالا، وشبابا، وثروة، ونضرة؟!.
وزواجه بالسيدة: أم حبيبة بنت أبي سفيان حفظ لها من الضيعة وهي في بلاد نائية عن بلادها، فقد تنصر زوجها: عبيد الله بن جحش ومات على نصرانيته، وثبتت هي على إيمانها، وتحملت آلام الوحدة والغربة؛ فلم يكن ثم شيء أجمل مما صنعه الرسول معها، وقد تزوجها النبي وهي بالحبشة ولم يدخل بها إلا عام سبع بعد خيبر فكيف يكون هذا حال من أولع بالنساء، وصار همه إشباع رغباته الشهوانية ونهمه الجنسي؟!.
وزواجه بالسيدة: زينب بنت جحش؛ لإبطال هذه العادة، ويطول بي القول لو استقصيت الحكم في زواجه صلى الله عليه وسلم فلذلك مقام آخر. والعجب من هؤلاء الطاعنين إذا وقعوا على ما يشفي غليلهم من باطل الروايات، تمادوا في قلب الحقائق، وأنكروا عقولهم، وتجاهلوا الظروف والملابسات، والبيئة، وأحكامها، والعادات وسلطانها إلى غير ذلك مما يتفيهقون به، بينما يطيشون بالحكم على روايات في غاية الصحة بأنها موضوعة ولا حامل لهم في الحالين إلا الهوى والتعصب. وبعد: فإذا كانت القصة كما رأيت، لا سند لها من جهة النقل، وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم تكذبها، وطبيعة البيئة التي جرت فيها تجلت أصولها، فلم يبقَ إلا أنها موضوعة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.
قيل بأن الآية نزلت في زينب حيث أراد النبي صلى الله عليه وسلم تزويجها من زيد بن حارثة فكرهت إلا النبي عليه السلام وكذلك أخوها امتنع فنزلت الآية فرضيا به، والوجه أن يقال إن الله تعالى لما أمر نبيه بأن يقول لزوجاته إنهن مخيرات فهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد ضرر الغير فمن كان ميله إلى شيء يمكنه النبي عليه السلام من ذلك، ويترك النبي عليه السلام حق نفسه لحظ غيره، فقال في هذه الآية لا ينبغي أن يظن ظان أن هوى نفسه متبعه وأن زمام الاختيار بيد الإنسان كما في الزوجات، بل ليس لمؤمن ولا مؤمنة أن يكون له اختيار عند حكم الله ورسوله فما أمر الله هو المتبع وما أراد النبي هو الحق ومن خالفهما في شيء فقد ضل ضلالًا مبينًا، لأن الله هو المقصد والنبي هو الهادي الموصل، فمن ترك المقصد ولم يسمع قول الهادي فهو ضال قطعًا.
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ}.
وهو زيد أنعم الله عليه بالإسلام {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالتحرير والإعتاق {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} همَّ زيد بطلاق زينب فقال له النبي أمسك أي لا تطلقها {واتق الله} قيل في الطلاق، وقيل في الشكوى من زينب، فإن زيدًا قال فيها إنها تتكبر علي بسبب النسب وعدم الكفاءة {وَتُخْفِي في نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} من أنك تريد التزوج بزينب {وتخشى الناس} من أن يقولوا أخذ زوجة الغير أو الإبن {والله أَحَقُّ أَن تخشاه} ليس إشارة إلى أن النبي خشي الناس ولم يخش الله بل المعنى الله أحق أن تخشاه وحده ولا تخش أحدًا معه وأنت تخشاه وتخشى الناس أيضًا، فاجعل الخشية له وحده كما قال تعالى: {الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ الله} [الأحزاب: 39].
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَرًا زوجناكها} أي لما طلقها زيد وانقضت عدتها وذلك لأن الزوجة ما دامت في نكاح الزوج فهي تدفع حاجته وهو محتاج إليها، فلم يقض منها الوطر بالكلية ولم يستغن وكذلك إذا كان في العدة له بها تعلق لإمكان شغل الرحم فلم يقض منها بعد وطره، وأما إذا طلق وانقضت عدتها استغنى عنها ولم يبق له معها تعلق فيقضي منها الوطر وهذا موافق لما في الشرع لأن التزوج بزوجة الغير أو بمعتدته لا يجوز فلهذا قال: {فَلَمَّا قضى} وكذلك قوله: {لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا} أي إذا طلقوهن وانقضت عدتهن، وفيه إشارة إلى أن التزويج من النبي عليه السلام لم يكن لقضاء شهوة النبي عليه السلام بل لبيان الشريعة بفعله فإن الشرع يستفاد من فعل النبي وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولًا} أي مقضيًا ما قضاه كائن.
ثم بين أن تزوجه عليه السلام بها مع أنه كان مبينًا لشرع مشتمل على فائدة كان خاليًا من المفاسد. اهـ.

.قال الجصاص:

وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.
فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوَامِرَ رَسُولِهِ عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَفَى بِالْآيَةِ أَنْ تَكُونَ لَنَا الْخِيَرَةُ فِي تَرْكِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَأَوَامِرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْوُجُوبِ لَكُنَّا مُخَيَّرِينَ بَيْنَ التَّرْكِ وَالْفِعْلِ، وَقَدْ نَفَتْ الْآيَةُ التَّخْيِيرَ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فِي نَسَقِ ذِكْرِ الْأَوَامِرِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَأَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ فَقَدْ انْتَظَمَتْ الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَأَوَامِرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَفَتْ التَّخْيِيرَ مَعَهُمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ} الْآيَةَ.
رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: مَا كَانَ الْحُسَيْنُ يَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}؟ قَالَ: قُلْت: كَانَ يَقُولُ: إنَّهَا كَانَتْ تُعْجِبُهُ، وَإِنَّهُ قَالَ لِزَيْدٍ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك.
قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّ زَيْنَبَ سَتَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ زَيْدٌ يَشْكُو مِنْهَا قَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك قَالَ اللَّهُ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}.
وَقِيلَ: إنَّ زَيْدًا قَدْ كَانَ يُخَاصِمُ امْرَأَتَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَامَ الشَّرُّ بَيْنَهُمَا حَتَّى ظَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا لَا يَتَّفِقَانِ وَأَنَّهُ سَيُفَارِقُهَا، فَأَضْمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا زَيْدٌ تَزَوَّجَهَا، وَهِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ وَكَانَتْ بِنْتَ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ أَنْ يَضُمَّهَا إلَيْهِ صِلَةً لِرَحِمِهَا وَإِشْفَاقًا عَلَيْهَا، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى إضْمَارِ ذَلِكَ وَإِخْفَائِهِ وَقَوْلِهِ لِزَيْدٍ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ وَظَاهِرُهُ عِنْدَ النَّاسِ سَوَاءً، كَمَا قَالَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ حِينَ قِيلَ لَهُ: هَلَّا أَوْمَأْت إلَيْنَا بِقَتْلِهِ فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ بِأَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَجِبُ إخْفَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ جَائِزٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يُخْشَى مِنْ النَّاسِ، وَقَدْ أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَالنَّاسُ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَخْشَوْا فِي إظْهَارِهِ وَإِعْلَانِهِ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ نَزَلَتْ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ، وَلِذَلِكَ قِيلِ لِلْمُعْتَقِ مَوْلَى نِعْمَةٍ.
وقَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} الْآيَةَ.
قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَحْكَامًا: أَحَدُهَا: الْإِبَانَةُ عَنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ اقْتَضَى إبَاحَتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَدَلَّ عَلَى إثْبَاتِ الْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ وَاعْتِبَارِ الْمَعَانِي فِي إيجَابِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْبُنُوَّةَ مِنْ جِهَةِ التَّبَنِّي لَا تَمْنَعُ جَوَازَ النِّكَاحِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأُمَّةَ مُسَاوِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُكْمِ إلَّا مَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَحَلَّ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ مُسَاوِينَ لَهُ. اهـ.